كانت أول عاصمة أزورها خارج حدود المحروسة وأول مدينة أتوه فيها. للتيه في المدن الغريبة طعم التجربة الأولى وشيء من ملح المغامرة. نزلتها محملاً بعبق روايات توفيق الحكيم، وأجواء يحيى حقى، وأيام طه حسين، ولوحات يوسف فرنسيس. تمشيت في طرقاتها وفي الذاكرة أصداء قراءات فيكتور هوجو، وجى دى موباسان، وألبير كامى. نزلت بغرفة صغيرة بفندق بسيط، يتناسب وإمكاناتي المادية، في الحى اللاتينى. قلب باريس النابض.
زرت مسرح الأوديون وفتشت مع الحكيم عن وجه بائعة التذاكر، مهتديًا بوصفها في (عصفور من الشرق)، بحثت عنها في وجوه كل الباريسيات، وعندما التقيتها، تمشينا تحت نديف الثلج وعدونا كمجنونين تحت المطر، نكاية في نزار قبانى حين قال، (نحن من عامين .. لم نزهر .. ولم نورق .. ولم نطرح ثمر/ نحن من عامين لم نبرق .. ولم نرعد / ولم نركض كمجنونين يا سيدتي، تحت المطر).
خلفي مبنى السوربون، وفي الجوار شارع سان ميشيل، وعلى مقربة تجثم كنيسة نوتردام، (سيدتنا العذراء)، بطرازها القوطى الفريد. أغوتني نوتردام بزيارة الكنائس والبازيليكات وتأمل عمارتها وفسيفسائها ودقائق فنون زيناتها.
تعلمت أوربا العمارة القوطية بالتزامن مع اجتياح قبائل القوط الجرمانيين إيطاليا في القرن الخامس الميلادى وصولاً إلى تلك الكنيسة الصغيرة القابعة على ارتفاع سبعمائة متر فوق جبل نيبو، بالأردن، محل سيدنا موسى، عليه السلام. من هناك انتشرت عمارة الأقبية المتشابكة عبر أعصاب بارزة تزينها الأقواس والاكتاف مع الزجاج الملون للنوافذ والأثاث الخشبى داكن اللون في انحاء القارة الأوربية وصولاً إلى الفاتيكان بروما.
مَن صَنعَ مَن، هل صنع فيكتور هوجو من كنيسة نوتردام معلمًا تاريخيًا يصطف أمامه الزوار والسائحون في طوابير طويلة للزيارة، أم صنعت الكنيسة من روايته (أحدب نوتردام) عملاً خالدًا. ربما كان الاحتمال الأول أكثر قبولاً.
ظل قصر الحمراء أثرًا مهجورًا لعقود طويلة إلى أن زاره الكاتب الأمريكى واشنطن إيرفنج عام 1832 فما أن أصدر كتابه (حكايات الحمراء Tales of the Alhambra) حتى صار القصر محل اهتمام العالم وقبلة سائحيه، وتكريمًا له، حُفِرَ اسمه فوق باب الغرفة التى كتب فيها روايته، وقت كان جزء من القصر يستخدم كفندق.
تخطى ما سرده هوجو عن الكنيسة ما يجعلها مسرحًا لروايته إلى بيان معرفته الدقيقة بتاريخها وأحداثها فانعكست في شخصياته، تمامًا كما فعل الكاتب الأمريكي دان براون في روايته (شفرة دافنشي)، حين سرد وحلل تاريخ لوحات اللوفر، مُعطيًا لوحة العشاء الأخير لدافنشي أهمية خاصة، جعلتنا نحصى عدد الحواريين من حوله ونتساءل، يد من هذا الواقف بالخلف قابضًا على الخنجر في إصرار، ثم عاد وأشعل حطب أفكارنا حين دعانا لتدقيق النظر في وجه وكف الجالس على يمين السيد المسيح، لنتساءل معه، أهى حقًا مريم المجدلية.
وحد هوجو الكنيسة مع الشخصية المحورية في الرواية، كوازيمودو، أحدب الظهر دميم الخلقة، ليصبح رمزًا نقيًا وطاهرًا للدين يفوق ما يظهره القس المخادع أمام الناس. لعقود ظل الأحدب منبوذًا حتى حوله حب أزميرالدا إلى رمز للعطاء والإيثار، مؤثرًا سعادتها على سعادته، وإن اقترنت تضحياته بتعاسته. وجعلته أيضًا ينظر للعالم نظرة مغايرة. علم من حوله النظر إلى جوهر الإنسان لا ظاهره. في الجوهر تكمن القيمة والمكانة الإنسانية.
عندما شبت النيران في الكنيسة قبل ثلاثة أعوام تعلقت القلوب بالحوائط المتهالكة تترقب ظهور كوازيمودو، فهو الوحيد القادر -رغم إخفاقاته المتكررة في إخماد جذوة حبه- على إطفاء نيرانها.
رائع جدًا أن تكون للآخرين الإطفائي الأول، مؤلمٌ جدًا ألا تجد نيرانك من يخمدها.